ما بعد الشيخ جرّاح: إعادة نظر في تقديم القضية الفلسطينية إلى العالم
لن يكون هذا المقال تغطية لما يحدث من انتهاكات وحشية، في حي الشيخ جراح وغزة، لآلاف من الفلسطينيين الأبرياء العزّل. لكنه يتخذ من هذه الأحداث منطلقًا لنظرة جديدة واعية وتحليلية تجاه القضية الفلسطينية ككل، وما ظهر على السطح من مشاكل في عرضها وتناولها.
بداية وبالنظر إلى حراك المقاومة الفلسطينية فإنه يتكون في الأساس من ثلاث محاور رئيسية مهمة وهي:
1- المقاومة العسكرية.
2- المقاومة السياسية.
3- المقاومة الثقافية والفكرية.
وللأسف يبدو أن أشكال -أو مكونات- المقاومة الثلاث في حالة فشل متوازٍ متطرد. وأنا في هذا المقال سوف أحاول أن أختصَّ الذراع الثقافي للمقاومة، دونا عن غيره، بالتحليل والنقد. والسؤال الأول الذي يطرح نفسه: لماذا تقديم هذا المكوِّن تحديدًا؟
واعتقادي أن هذا منطقي للغاية في ضوء السببين التاليين:
إن أي صراع أرضٍ يقوم بين طرفين متنازعين، يدّعي كل منهما أنه يمتلك قضية عادلة، والقضية التي يتبناها هذا الطرف أو ذاك هي في أصلها بناء ثقافي من تاريخ وفكر وهوية. وهذا البناء الثقافي هو الشرعية التي تستند إليها أفعال هذا الطرف أو ذاك، وإن ضعف هذا البناء اهتزت أحقية صاحبه، وسُحِبَ من فوق رأسه غطاء الشرعية الذي يحميه أخلاقيا، ويحمي مطالبَه ومشروعيتها أمام العالم وأمام نفسه. وبالتالي فإن المقاومة الثقافية والفكرية هي المؤسس الحقيقي للمقاومتين: السياسية والعسكرية.
كما تقول الروائية الكويتية بثينة العيسى، في مقال قد نشرته على حسابها في موقع انستاجرام، تراجع كتاب "The Ethnic Cleansing of Palestine" للمؤرخ إيلان بابيه، تقول:
"أنا كاتبة، بتاعة قصص، وكل ما لديَّ هو اللغة، ولستُ أكتب اليوم لكي أتغزّل باللغة، بل لأحذّر منها؛ قدرتها على التزوير؛ إلقاء غلالة سوداء على الوجهِ الناصع لعجوزِ التاريخ، ممارسة اللعبة التي يحترفها الساسة والكهنة والعشاق الجبناء؛ تسمية الشيء بغيرِ اسمه (وكلنا نعرفُ بأننا لكي نمتلك علاقتنا بالأشياء، نحتاجُ أن نسمّيها)، تفخيخ اللغة بالوسائد الناعمة لامتصاصِ صرخات الضحايا، إزاحة الدلالة والعبث بالسياقات أو إلغائها، اختراع نقطة صفرية لتبدأ منها شبكة علاقات جديدة، وكأننا كائنات بلا ذاكرة."
فـبثينة تلفت النظر إلى خطورة الثقافة -ومنها اللغة المستخدمة لتناول القضية- كسلاح حاد لا يقل قسوة عن السيف في اقتلاع الجذور التاريخية من الأرض، لتعود عذراء مرة أخرى، مستعدة لبذورٍ جديدة أيا كان أصلها.
أما السبب الثاني فيرجع إلى التقصير المعرفي المجحف بحق القضية الفلسطينية في الأوساط العربية والإسلامية. فكل ما هو معروف عن المشهد الفلسطيني يكاد يكون محض صور مبهمة عن جنائز تُشيَّع، وأطفال تبكي، وبيوت تُدمَّر، ولقطات مختلطة ومتداخلة من الأقصى وقبة الصخرة. بلا أدنى معرفة حقيقية بتاريخ الصراع ومتى بدأ وكيف. وما هي الجرائم التي حدثت على امتداد هذا الصراع. وإلى أين وصل، وإلى أين هو ذاهب. والصور القمعية الكثيرة التي ينطوي عليها العنف الإسرائيلي؛ فالعنفُ الصهيوني يتخطى كونه العنف الجسدي فحسب، فثمة عنف نفسي وثقافي واجتماعي وعلى كل الأصعدة تقريبا، وهو اعتداء ممنهج ومقصود.
مجرد اكتفاء سطحي بجوانب القضية يدعو للرثاء. وكأن المعركة لا تحتاج إلى معرفة وقدرة على شرح الذات: للذات وللآخر. وأمام هذا الجهل العربي كان لابد من التصدي للمشاكل التي تواجهها المقاومة ثقافيا وفكريا.
إذا فإن الثقافة هي المكون الرئيسي في الصراع، وميدان المعركة الأول الذي يجب علينا أن نعمل جاهدين حتى لا ننهزم فيه، ثم ننطلق منه إلى المقاومتين السياسية والعسكرية.
اعتمادًا على ما ذكرته آنفًا، فظني أن الاستغلال الأمثل للأحداث الجارية والضوء الذي سُلِّطَ عليها هو تحويلها إلى لحظة تعلّم جمعي. هذا التعلم الجمعي يعتمد على مشاركة المصادر المعرفية المختلفة، وتبسيط المعلومات الخاصة بالقضية وعرضها بشكل منظم، وأيضا الإطلاع على الأدب الفلسطيني الثري، لخلق نوع من التواصل الشعوري مع القضية ومطالبها وإعادة الفرد الفلسطيني من الفضاء البارد للمعلومات الجافة والأرقام الإحصائية لعدد الضحايا إلى أرض الواقع الإنساني ومعاناته اليومية.
وهذا النوع من المقاومة هو الأبقى أثرًا من العبارات الرنانة التي يتم تداولها باستمرار في خضم الانتشار الذي يحدث من وقت لآخر للقضية. فهذه الشعارات، وإن كانت مهمة، فهي لا تُرسي في العقل فكرة ولا حُجّةً تجعله بها يتذكر الصراع على الدوام، فتتحول إلى انفجار شعوري لا يفضي إلى أي مكان على الإطلاق. يجب علينا أن نخلق فردا مدركا واعيا بحق لكي تكون له القدرة على المقاومة ذهنيا وبدنيا.
من الأخطار الكبيرة التي تهدد عملية المقاومة الثقافية هي الاتكال العربي على نظريات المؤامرة والاكتفاء بالإيمان بها عن أي محاولة للفعل الحقيقي أو محاولة التواصل مع الآخر. فنحن قد خلقنا وهم السيطرة الإسرائيلية على العالم ثم وقعنا أسرى له، دون أن ننظر إلى الواقع وما الذي يمكننا فعله لتصدير قضيتنا بالشكل الذي يليق بها، للشعوبِ قبل الحكومات. وفيما يخص سيطرة اللوبي الإسرائيلي على السياسة الأمريكية ومن خلالها العالمية يقول عالم اللسانيات والمفكر البارز نعوم تشوميسكي (وهو من مناصرين القضية الفلسطينية) عندما وُجِّه إليه السؤال:
"هل اللوبي الإسرائيلي قوي جدا إلى حد أنه يمكنه السيطرة على قوة عظمى (يقصد أميركا)؟"
يقول تشوميسكي: "صديقي جليبر أشقر، وهو متخصص بارز في قضايا الشرق الأوسط والعلاقات الدولية العامة، وصف الفكرة بأنها "وهم". حقيقة ليس اللوبي هو من يجبر صناعة التقنيات الأمريكية على توسيع استثماراتها في إسرائيل، أو يجبر الحكومة على التجهيز المسبق للمواقع هناك تحضيرا للعمليات العسكرية اللاحقة وزيادة التقارب العسكري والعلاقات الاستخباراتية.
عندما تتوافق أهداف اللوبي مع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الملموسة، فإنها بالعموم تجد طريقها إلى التحقق: على سبيل المثال تدمير الفلسطينيين، قضية قليلة الأهمية بالنسبة إلى المؤسسات المسيطرة في الدولة الأمريكية. وعندما تتباعد الأهداف، كما يحدث غالبا، يختفي اللوبي بسرعة، مدركا أن هذا أفضل من مجابهة القوة الأصلية." (العالم إلى أين: صفحة 22-23 / دار الساقي 2018)
إذا فالعلاقة هي علاقة مصالح بحتة وليست علاقة سيطرة، وبالتالي يمكن الضغط والتأثير فيها، وهذا بلا شك سوف يبدأ بإعادة تصدير الواقع إلى شعوب الخارج في الديمقراطيات العالمية والتي يمكن الاعتماد عليها من أجل الضغط على الحكومات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى. وإن كان هذا التأثير يتطلب الكثير من النظر في كيفية إحداثه وإلى أي مدى سيظهر، ولكن هذا المقال لا يتسع لتلك التفاصيل. هنا سأكتفي بالتنويه عن أن النجم الصاعد للتيار اليساري التقدمي في أمريكا قد يجد متسعا للقضية الفلسطينية في أجندته السياسية إذا ما تم عرضها بما تستحقه من كونها مشكلة حساسة ومحورية للمنطقة.
شيطنة الآخر بلا داعي قد تجعلنا نعيش في عزلة تخنقنا، وتفصِلنا عن أماكن صنع القرار العالمية الحقيقية، فشعوب تلك الحكومات -مهما بلغت تلك الحكومات من إرهاب وظلم وبراجماتية لا أخلاقية- يمكن اكتسابهم في صف قضيتنا، وهم في النهاية بشر مثلنا يمكننا أن نتواصل معهم. ولا يوجد مثال أفضل من انفصال الحاكم عن المحكوم من بلادنا نفسها! إذا يجب أن نغير نظرتنا ونتحدث لكي نُسمَع.
وهنا نعود للنقطة الأساسية وهي الثقافة التي يجب أن نعمل على تنميتها في ذواتنا، فهي الأداة الأساسية التي سوف نستخدمها في بلورة شرعية القضية لتصبح قادرة على التأثير والفعل العالميين المرجوّين.
سوف أتطرق الآن إلى نقاط انطلاق أساسية لعرض القضية الفلسطينية بمنحى واعٍ وشامل، باعتبار تلك النقاط شديدة الاتساق بالمقاومة الثقافية والفكرية:
1- إن حركة المقاومة الثقافية المنظمة قد تنبع من حدث واحد مؤثر ولافت، رغم كونه بعيدا كل البعد عن كونه الأبشع والأسوأ. ولا عيب في ذلك. فتحديد أيا من تلك اللحظات سيكون الأكثر تأثيرا يعد شبه مستحيل، لأن ذلك يتدخل فيه العديد من العوامل الخارجة عن السيطرة. وبالتالي فإن عجزنا عن تسليط الأضواء على كل جريمة تحدث لا يترك لنا إلا خيارًا واحدًا: استغلال الضوء المُسلَّط على القضية في أي وقت بقدر المستطاع.
يتحدث عالم الاجتماع Doug McAdam في نظريته المعروفة بـ Political process theory عن أن الحراك الإجتماعي -ويمكن النظر هنا لحراك المقاومة كحراك اجتماعي في الوطن العربي كله والعالم- عما يعرف باسم الـ Protest Cycles: وهي تلك الأوقات التي تكون فيها الحركة الإجتماعية أكثر حشدًا، ونشاط الحركة يزداد وينحسر مع الوقت.
إذا لكل حراك أوقات ازدياد ونشاطٍ وحشد يجب استغلالها، وما يحدث في حي الشيخ جراح من تطهير عرقي قسري للفلسطينيين هي لحظة احتشاد وتأجج للمشاعر يجب أن تستغل جيدا. كما حدث مع مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد وهو أعزل وبدون مقاومة على يد ضابط أميركي أبيض في عام 2020. ونتج عن ذلك أكبر مظاهرات عرفتها منظمة Black Lives Matter في تاريخها رغم نشأتها في عام 2013 لمناهضة العنصرية المؤسساتية في المجتمع الأمريكي.
2- من المهم إعادة الصراع إلى نصابه القومي العربي الأصلي. فالقضية الفلسطينية منذ بدايتها قضية عربية من الدرجة الأولى، وهذا تحديدا ما جعل لها ثقل على المستويين الإقليمي والدولي. وفي العقود الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين كانت للقضية الفلسطينية موقع مهم من الاهتمامات السياسية في كل الدول العربية والأيديولوجيات المتناحرة بداخلها. فكان على كل أيديولوجية أن تقدم حلها للقضية كجزء أساسي من فكرها. لكن مع الوقت تقزّمت القضية حتى انحسرت داخل الحدود الفلسطينية المحتلة، وأصبح النظر إليها من وقت لآخر للتلاعب بعواطف الجماهير والمزايدات الوطنية، دون اهتمام حقيقي. فيجب على الحراك الثقافي أن يضعها موضع المركز مرة أخرى من القضايا العربية والربط بين الأمن والحق الفلسطينيين وأمن بقية الدول العربية وشعوبها.
3- أعتقد أن المسبب الرئيسي للسخط العربي واتجاهه إلى تفسيرات معتمدة على نظريات المؤامرة يكمن بالأساس في اعتمادية خطابنا على بديهية الاستحقاق. فعندما نرى الشعوب الأخرى تدين مقاومتنا إرهابًا، وتصف الاستعمار على أنه صراع متكافئ بين جبهتين على أرض خاوية بلا شعب يصيبنا اليأس والذهول. كأن لسان حالنا يقول: ألا يرون الواقع؟! ألا يعلمون ما حدث؟! والحقيقة أن الإجابة صادمة؛ فهم بالفعل لا يرون الواقع ولا يعرفون ما حدث أو يحدث. إذا كان العرب أنفسهم الآن كما اتفقنا لا يزيد ما يعرفونه عن كونه صور مبهمة، فكيف لنا أن نتصور أن يكون الحال أفضل عند الآخرين؟ ومع تلك الصورة الضبابية يسهل التلاعب بالحقائق وعرضها ناقصة، اعتمادا على السردية الصهيونية. التي يُبذَل في سبيلها عشرات أضعاف المجهود المبذول من العرب، لينشر الإسرائيليون قصتهم عن الأحداث والتاريخ، وإيجاد مصالح مشتركة بينهم وبين القوى السياسية المختلفة في العالم.
إذا فهو خطأ قاتل الإعتماد على بديهية الاستحقاق، ويجب معرفة أن بناء قضية قوية يتطلب مجهودا ثقافيا وفكريا وسياسيا جبارا.
4- من الأمور المهمة التي يجب الإلتفات إليها هي عدم الخجل من الحصول على مكاسب صغيرة على طول الطريق، وعدم التفريط فيها؛ فهي أفضل من لا شيء. مثلا إذا حدث أن تمكنا من خلال الضغط السياسي العالمي أن نجعل المؤسسات القضائية الإسرائيلية أكثر اتزانا في قراراتها عند اللجوء إليها (وهو ما لا يحدث الآن) بوثائق الملكية، أو حتى من خلال مراقبة دولية من نوع ما، فهذا انتصار لا يجب التفريط فيه أمام شعارات رنانة لا تسمن ولا تغني من جوع.
مع وضوح الهدف الرئيسي النهائي للمقاومة أمام أعيننا -وهو التحرير- يمكننا أن نستمتع بمثل تلك الانتصارات دون وجل من أن تُنسي وتُغطي على الهدف الأكبر. فالصراعُ ماراثوني، ويجب علينا ألا ننسى القابعين تحت وطأة الاحتلال وظلمه كل يوم وكل ساعة. فكل مبادرة، ولو صغيرة، يمكنها أن تقلل من هذا العناء فهي مُرحَّب بها في إطار الهدف الأكبر.
ختاما أريد أن أؤكد على أهمية المقاومة الفكرية، وأن ما حدث هو صيحة أيقظت كل نائم وغافل. وعلى من أراد أن يقاوم وهو بعيد عن القدس بآلاف الأميال أن يقطف كتابا ويستخرج بذوره ثم يعيد غرسها في عقول غيره ممن حوله ما استطاع.
تعليقات
إرسال تعليق