أليست كلها ثرثرات؟

 تقوم ثائرة جيوبي الأنفية على الدوام في هذا الوقت من العام، تبدّل الفصول. لقد اعتدتُ الأمر؛ فهناك عشرات المهيجات التي تثيرها طوال الوقت: الروائح النفاذة، الهواء البارد، الاستحمام بماء دافيء، السهر ليلتين متتاليتين، وغيرهم الكثير. حتى أنني اعتدتُ نزيف أنفي بين الحين والآخر. صرت أتعامل معه بمهارة، أداويه أحيانا بدون التحرك من مكاني، استخدم عدة مناديل حتى يتوقف تمامًا، هكذا ببساطة، استمر فيما أفعل بدون التفاتة اكتراث واحدة.

شيء بخصوص التكرار يجعل الأمور أكثر احتمالًا. في البداية يتملكك الذعر، الاحتمالات كثيرة ولديها القدرة على إتلاف الهدوء، والتساؤلات تحفر طريقها إلى عقلك. لماذا حدث هذا؟ وكيف؟ وماذا يعني؟ وإلى متى سيستمر؟ 

من المحتمل أني أبالغ قليلًا، لكنّي سأسمحُ لنفسي بذلك فقد قررت التهاون معها اليوم. ربما الحساسية الموسمية ليست المثال الأفضل لما يدور بعقلي، ولكن ماذا يدور بعقلي يتطلب تمثيلًا؟ أظن ألا معنى غائر وراء ما قولته. أنا فقط أثرثر.. أثرثر لرغبتي الهروب من صوت ما يطاردني، لا أستطيع أن أضع يدي على ماهيته تحديدًا، لكن مازالت أصداء خطاه تتردد في أذني، وغالبًا سأستمرُ في هذا الركض -دون حتى النظر للخلف- كما أفعل دومًا. 


هذه الأيام أُكثِرُ من قراءة كل ما يُبعدني عن الواقع. الكتب التي موضوعها الحاضر ممنوعة، فقط الخيال أو الماضي السحيق. كل ما أفعله بجانب المذاكرة -المُجبَرُ عليها- هو القراءة وممارسة التكرار. أمر ممارسة التكرار ذلك معقد ولن أخوض فيه، ليس هذه المرة. 

فلنعود للقراءة: أنا منغمسٌ في اليونان القديمة حتى رأسي. أجوب المدن مع فلاسفتهم، وتحديدا سقراط هذه الأيام. أساطيرهم الدينية تشغل رأسي بكثير من الأفكار المثيرة، تفسيرهم للظواهر عن طريق الميثولوجيا يبدو للوهلة الأولى ساذجا، لكن ما إن تمعن البصر حتى تنبهر بتلك الخاطرة العبقرية التي انبثقت عنها الحكاية.

 



دعوني أعترف أن سقراط قد أسرني بذكائه وسرعة بديهته. أمر ما يتعلق  بممارسته للفلسفة في الشوارع والأسواق والحانات، ومحاورة كل من يقابله وفي كافة المواضيع بلا كلل، وطريقته اللاذعة -والمستفزة أحيانًا- في الحديث يجعله جذابا بلا نظير. الموضوع لا يتعلق بفلسفته نفسها، وإنما كيف كان، وكيف تعاطاها بتفاني الأنبياء. تمنيت لو كنت ممن قابلوه في حياته. ياترى عن ماذا كنا سنتحدث؟ وهل كنت سأقوى على حضور إعدامه؟ وبماذا كان سيخبرني؟

موت سقراط لجاك لوي ديفيد



في كتاب الأساطير لفتت انتباهي تلك القصة:

اقتباس من كتاب الأساطير اليونانية لأمين سلامة

 

إنها المرة الأولى التي أعرف فيها أصل كلمة "بانيك" (ذعر) وقد بدى لي منطقي للغاية: أن يصيب الذعر المسافرين؛ ففي السفر حالة من عدم اليقين التي يمكن إسقاطها على كل مفترق في الحياة. كل قرار هو طريق سفر جديد، وبسهولة قد تجد نفسك في المنعطف الخاطئ، وإنْ أفضى المنعطف على مساحة شاسعة لم تتوقعها أكبر مما يمكن لعقلك استيعابه سيستولي عليك الذعر لا محالة. ربما هذا ما يحدث معي دومًا، ومع الجميع، منذ أن عرف البشر السفر!

لا أجد مزيدا أثرثر عنه.

تبدو كنهاية مبتورة، لكن مجددًا، ماذا بُتِرَ منها؟ هي ككل الثرثرات تنتهي فجأة. نحن من نُحمِّل النهايات فوق طاقتها..     


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وغادرت الغزلان!

حارس سطح العالم (مراجعة)