حارس سطح العالم (مراجعة)

 "حارس سطح العالم" 

  • بثينة العيسى. 



إن الغريب -والمبهر- في تلك الرواية، أنك لن تستطع أن تخوض غمارها، أو تستمتع بها، دون تأويل النص. وكأن الكاتبة أرادتكَ شريكًا في الجريمة منذ السطر الأول؛ تستغرق في الرمزية والاستعارات، تبحث عما وراء العبارات والجمل، وبدون أن تدري ستتورط حتى أذنيك في خلق المعنى، وبالتالي لستَ بريئًا مما تستنبط؛ فأنت تلقن النص دلالاتِكَ كما يلقنك دلالاتِه تمامًا.

اللغة هي موسيقى الحكايا، وهنا كانت متناغمة، قاسية أحيانًا وأخرى ناعمة، متماهية مع النص حد الاختفاء، وهو الشيء الصعب. عاونني هذا في أن أتماهى بدوري مع القصة: فلقد رقصتُ وبكيتُ على أنغام الرواية؛ شعرتُ أني عارٍ أرقصُ مع زوربا، تخبط قدماي الأرض بشدة، ومع ذلك لا يُسمَعُ إلا صوت الموسيقى. ألس وبينوكيو، صديقا الطفولة، نُفخِتْ فيهما الحياةُ فبُعِثا بين دفتي الكتاب. و عينا الأخ الكبير حاصرتني من كل اتجاه، حتى أمسيت مقتنعًا أني دمية. واختنقت بدخان عيد التطهير مغصوصًا وغاضبًا على من يحرق الكتب والماضي معها. وأنا بين كل هذا وذاك مستمتعٌ ومستغرقٌ في التأويل، بتهور سرطانات المعارضة وحذر حارس المكتبة.


لقد قاربتْ الكاتبةُ الأنظمة الشمولية في خلفية الحكاية. حللتها، ثم فككتها بشكل جذري. ظهر كيف اختفى "الشخصي" في الإنسان، وصار كل شيء تحت رقابة الحكومة في السماء، كلية القدرة وكلية المعرفة، وما لا تقر الحكومة معرفته يصبح خيالا، والخيال ممنوع. كرّس أيضا لهذه الفكرة أن ليس للأبطال أسماء متفردة، ولكن ألقاب مجردة وصقيلة لا يمكن أن تحمل أي شخصنة أو عمق؛ فالبشر مجرد مسميات وظيفية -سواء بيروقراطية كمفتش، أو مجتمعية كأم- وأرقامٌ للإحصاء والبحث. لقد أصبح الاختلاف في أبسط صوره خطيئة، والتماثل هو قانون البقاء. حتى أنه عندما وقع البطلُ في الخطر، وخشي الحكومة، نصحه محاميه نصيحة بسيطة ومباشرة عندما استفسر عما يفعل:
"قطّب المحامي، رفع كتفيه مادًا كفيه باتجاه الرجل وزوجته، يكاد لا يصدق أنه مضطر إلى شرح أمر بديهي كهذا. افعل ما يفعله الجميع! قال.."  صـ 218


أحسستُ أيضًا أن قصة حارس السطح/المكتبة هي قصة الإنسانية بشكل ما وذلك عندما اقتنع أن الصوت الذي في رأسه ليس إلا صوته:

"قال ما قاله ليس بصوت العجوز، ولا زوربا، ولا ألس، ولا حتى بينوكيو. لقد قال كل شيء بصوته الخاص، وذابوا جميعًا في كلماته."  صـ 206

لأن الإنسانيةَ هي حكاياها بشكل ما، وألسنة أبطال الملاحم تنطق بكلمات وتوترات ومنازعات نفسية بشرية منذ فجر اللغة. فنحن الحكايا التي تُقَصُّ عنا، والحكايا هي انعكاس لنا في ذواتنا الحكاءة. 

ويستمر التدليل على ذلك مع الطفلة، التي رشحتْ بكثير من الشخصيات الخيالية التي أنتجها البشر على مر التاريخ، دون حاجة إلى أن تروى لها أي من قصصهم. 

"كانت الطفلة هي الراوية، والمروي له، وكانت القصص تتدفق منها ببساطة." صـ 205

الطفلة هي الإنسانية منذ مهدها تحكي عن نفسها لنفسها، بدون تلقين أو تبرير، لأن القصص ضرورة وهوية وليست مجرد رفاهية أو تسلية. 

 

المهم أن في وسط كل هذا كانت حبكة الرواية ممتعة ومتماسكة، تجعلك لا تريد أن تضعها جانبا قبل أن تعرف ما سيحدث حتى نهايتها. وهذا ما يُأخَذ على بعض الأعمال الأخرى التي تناقش فكرة بعينها، فتبتلع الفكرةُ عناصر القصة في بطنها، ويصبح صوت الرواية ممل أو تنظيري. وبالرغم أيضًا من كلاسيكية الفكرة إلى حد ما، فإنه لم ينقص من متعة التناول في شيء، بل كان تناولًا متميزًا وخلقًا جديدا للفكرة. وكما قالت بثينة: "هذه الرواية هي محاولة لمحاورة أعمال روائية كلاسيكية في سبيل رواية جديدة." 


الشعور الذي سيطر علي خلال صفحات الكتاب كلها وبعد الانتهاء منها، أنني شريكٌ في النص مع بثينة، وأعتقد أن هذا أقصى ما قد يطمح له كاتب وقارىء في علاقتهما. 

فشكرًا بثينة!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وغادرت الغزلان!

أليست كلها ثرثرات؟