التحرش بين تجريم الجاني والتبرير المجتمعي.. من يقف مع الضحية؟
"الملابس ليست مبررًا للتحرش ولكنها سبب.."
إن هذه من أكثر الجُمل استخدامًا مؤخرًا.
ففي النهاية هم يبغون لها حِفظًا وليس تقييدًا!! وتوازن الجملة من الجهة الأخرى، وبشكل ظاهري، برفضها للتحرش وأنه لا مبرر له.. |
كلما فرضتْ ظاهرة التحرش نفسها على الرأي العام بفعل حادثة أو أخرى لفتتْ انتباه الإعلام -ولسبب ما دون المئات غيرها التي تقع بشكل يومي- اشتد الصراع بين من يدين المُتحرِش بشكل كامل، وبين من يجاهد كي يُلبِس الضحية بعضًا من ثوب المسؤولية في الإعتداء عليها. ويهتم الصنف الثاني بألا "يبرّر" صراحة التحرش، غير مهتم بما يحمل خطابه من تبرير مبطَّن ودلالات تقول بتجريم الضحية.
وتستخدم جملة: "الملابس ليست مبررا للتحرش ولكنها سبب.." كالشعار المُتّزِن المُتقَن التركيب، يحمل في طيّاته تبريرًا غير مباشر؛ كيما يُستخدَم لفرض شكل معين -ومرغوب من قِبَل قوى تراتبية اجتماعية معينة- من الملابس على المرأة. ففي النهاية هم يبغون لها حِفظًا وليس تقييدًا!! وتوازن الجملة من الجهة الأخرى، وبشكل ظاهري، برفضها للتحرش وأنه لا مبرر له..
لتفنيد هذه الحجة -وإن لم ترقى إلى مصاف الحُجج حقًا، فهي تميل لكونها جملة توكيدية.. ادّعاءٌ بلا تقديم- يجب تحليلها تحليلًا دقيقًا. وهذا يتطلب منّا وقفة عند استخدام مصطلح التحرش في هذه الجملة، وتبيان الخلط -المقصود أو غير المقصود- الذي ينتج عن هذا الإستخدام.
للتفرقة هنا يجب وضع مصطلحين في حالة مقارنة، هما التحرش والإنجذاب الجنسي أو الجسدي.
فلنبدأ إذا بالتحرش: التحرش في معناه هو فعل استباحة. فالمُتحرِش يستبيح الضحية جنسيا لإشباع رغبته الخاصة دون موافقة الضحية أو الاهتمام برغباتها، فكأنه قد أعطى الحق لنفسه في الانتفاع بجسدها لهدف يخدمه هو..
أيا كان نوع التحرش فهو ينطوي على استباحة حق الضحية في السيطرة على ملكية جسدها الخاصة كيفما تشاء، والخضوع لرغبة فاعل خارجي يفرض فعله بالقوة، سواء كانت بدنية أو حتى مجتمعية.
بينما الإنجذاب الجسدي أو الجنسي فهو فعل داخلي، ليس به أي اعتداء على فضاء شخص آخر أو استباحة حقه في امتلاكه لذاته.
وهنا تقع المشكلة الكبرى في هذا التبرير المستخدم: "الملابس ليست مبررا للتحرش ولكنها سبب.."
فالسؤال هنا قد أصبح: هل الرغبة تبرر أو نتيجتها الحتمية الاستباحة؟ ولا تستطيع عند طرح هذا السؤال، وإذا طبقت منطق الجملة المستخدمة أعلاه، إلا الإقرار أنّه إذا زادت رغبة شخص بشيء ما، فله استباحته!! وبالتالي هنا يظهر التبرير جليًّا للعين. وهنا تُحمَّل الضحية مسؤولية التحكم في نقطة الإنفجار التي تتحول عندها الرغبة إلى فعل استباحة إجرامي.. كأن المجرم يجب أن نحافظ على رغبته عند نقطة معينة كيلا يمارس الجُرم!! ولتِبيان كم يبدو هذا الفرض سخيفا ومخيفا في الوقت ذاته، فلنطبّقه على مثال آخر للملكية الشخصية غير ملكية الجسد، التي تحمل في طيّاتها إشكالات مجتمعية وتاريخية في منطقتنا قد تقف عائقًا أمام فهم هذا المُشكِل.
لنستخدم المثال الأشهر المتداول هنا ونضعه موضع اختبار، ثم نطبّق عليه التحليل السابق المُفرِّق بين الرغبة في الشيء، واستباحته..
"إذا كان لديك سيارة فيجب أن تغلق أبوابها حتى لا تُسرَق، فإن لم تغلقها فأنت سبب في سرقتها.."
تبدو الجملة منطقية للغاية في البداية، وليست المشكلة في الجملة بذاتها، ولكن المشكلة الأساسية تقع في عدم التوافق بين المثال والفعل المُمثَّل به. فكيف هذا؟
لأن هذه الجملة تختص بالانتهازية دون الرغبة، وهو ما لا ينطبق على تبرير الملابس إطلاقا. فالانتهازيّة هنا تنبع من عدم حماية الممتلكات ضد من يجرم. ببساطة إنك إذا أخليت المجتمع من أفراد الشرطة -مثلا- فسوف تنتشر الجريمة بسبب انتهاز فرصة عدم الحماية للممتلكات، أيا كانت نوعها، ابتداء من الجسد وحتى الممتلكات الخارجية. والمجرمون المشاركون في هذا الفعل لم تتأثر رغباتهم بل تأثرت العوامل التي تمنعهم عن استباحة ما يرغبون بغير حق.
وإذا دققت النظر ستجد من المثير للسخرية أن رفع الحماية المجتمعية من على المرأة بالتبرير يفتح مساحة للانتهازية أن تزداد وتقوى. و تصبح الرغبة مبررًا لاستباحة المرغوب، انتهازًا لتبرير المجتمع للفعل ذاته وعدم تجريمه بشكل مطلق، وإمكانية تبرئة المجرم مجتمعيًا بل وقضائيًا.
والاستطراد في استخدام المثال سوف يذهب بنا إلى محاولة التمثيل الصحيح للفعل من خلاله فيصبح كالآتي:
"إذا كنت تحب السيارات، وترغب في إقتناء واحدة ولا تملك لذلك سبيلًا قانونيًا. وكانت رغبتك في السيارات المارة تزداد بازدياد جمال تصميمها وحسن أدائها، فإن على أصحاب تلك السيارات ألا يظهرونها أمامك تمامًا. وإلا قد تصل رغبتك نقطة الإنفجار فتُشهِر سلاحك وتستبيح ملكيتهم الخاصة بدون إذن منهم فتحصل على ما تريد حتى ولو لكيلومتراٍت قليلة ثم تعيدها. فعند إذ يصبح مالك السيارة ""سببًا"" في الجريمة لامتلاكه سيارة جميلة يريد أن يستمتع بحق ملكيتها، وإن لم نبرر فعل السارق المجرم بشكل كامل؛ فهو مخطيء."
وكأنَّ من مسؤولية المالك أن يتحكم في رغبات المجرم ويتوقعها ويتوقع النقطة التي سينفجر عندها. وأن عند هذه النقطة -التي قد تختلف من شخص لآخر- يفقد المالك حقوقه المجتمعية والقانونية في الحماية لما يملك!! وهنا يبدو جنون هذا الطرح، ولو قولتْهُ للمُبررين على أنه سبب في سرقة سيّارتهم لرموكَ بالغباء والحُمق. رغم أن هذا ما يفعلونه تماما عندما يخلطون بين الرغبة والاستباحة، والعلاقة بين الانتْهاز ونقص الحماية.
ونخلص من هذا إلى أن التفريق بين تلك المصطلحات هو المفتاح الأساسي لفهم الخطاب التبريري، معظمه إن لم يكن كله.
***
هذا مجرد تحليل متأنٍ لواحد من المغالطات المنطقية الكثيرة والادعاءات التي تنتشر كالنار في الهشيم بسبب كونها تماشي الفكر المجتمعي المعطوب، وتعزز رغبات سكونه وركوده. تحمل تداخلًا لأفكار مختلفة، بين رغبة تيارات لفرض رأيها كحل، وبين تحليل للموقف يبرر الجُرم المجتمعي، ولا يحترم حقوق الإنسان وحريته في امتلاكه ذاته، وهو أبسط الحقوق.
تعليقات
إرسال تعليق