المشاركات

حرائق صغيرة في كل مكان (مراجعة)

صورة
  لا يُحتمل بأي حال من الأحوال اختزال رواية حرائق صغيرة في كل مكان إلى رواية مكان فحسب. ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن تجاهل الحضور الطاغي والمستمر لمدينة "شايكر هايتس" على مسرح الأحداث.  فكما يقول عالم الإجتماع البولندي زيجمونت بومان:  "حول الأمكنة تتشكل التجربة البشرية وتُكتشف، وتُدار مشاركة الحياة، ويتشكل معناها، ويُستوعب، ويُتفق عليه؛ وحول الأمكنة، ومن الأمكنة، تتشكل الدوافع والرغبات البشرية، وتتبلور، وتعيش على أمل التحقق، وتُخاطر بالتعرض للإحباط والإخفاق."    الأزمنة السائلة؛ صــــ 97،98 وتتكشف الأحداث هنا بما يجعل لـ"مدينة شايكر" ذلك الطابع الميثولوجي في خلفية الأحداث. فالمدينة هنا كائن أسطوري بتاريخ ذي معنى وهدف، لا يقل أهمية عن معماريتها أو الخدمات المتوفرة بها. وتمثل المدينة بتاريخها وقواعدها هويةً لساكنيها وأسلوبًا حياتيًا كاملًا. وما يعزز محورية المكان في نسيج القصة هو المقال الذي استهلت به "سيلست إنج" الكتاب؛ فالمقالُ المنشور في جريدة الـ"كوزموبوليتان" يحمل طابعًا تبشيريا إلى حد بعيد، ووعد بحياة يوتيوبية في مدينة "شايكر هاي...

سِفر الظلال

صورة
  في البدء، وقبل كل شيء،  كان الظلام،  وخُلِقتُ أنا ظلًا.  و كظلٍ،  ذوبتُ في الغسق. وفي البحر الأسود، تهادى وجودي العذري، في سلامٍ، مستقرًا على القاع. ثم حدثتْ الأشياء، وانبثق من العتمة نورٌ،  وبقيت أنا، على حالي، ظلًا. لكن ما تغير حينها،  وللمرّة الأولى،  أنني ميزتُ وجودي. وتلك كانتْ الخطيئة الأولى. عدنٌ كانت الظلام، وكنت أنا ظلُّ آدم.  وعندما هوى إلى الأرض، تكشّفتْ لي سوءتي: أدركتُ،  للمرة الأولى، أنني، أنا. ارتجفتُ. طفقتُ اتدثر باللّيل، وحاولتُ، عبثًا، أن ابتلع النجم. لكن وعيًا لم ينحسر، وقلبًا لم يهدأ.  صرختُ: لماذا؟! لَمْ أشعر بقلبي يرتج، أو سمعته يبكي، قبلًا، فلِمَ الآن؟ ولمْ يجف حلقي، ولمْ يتدافع اللُهاث، حارقًا، في صدري، قبلًا، فلمَ الآن؟ والآن:  صرتُ أسمع وأرى، صرتُ أتحدث وأتحسس، صرتُ مرئيًا. وقعتُ في الخطيئة،  ولمْ أرتكبها.  لقد فعلها آدم،  فما ذنبي؟!  وأنا؟ أنا لمْ أشتكي، ولمْ أنشد معرفةً مُحرَّمةً، ولمْ أقرب ثمرة الخلود. كل ما أردته: أن أكون،  في سلام. دون تعقيد، أو تكليف. ألّا تُعرَف حدود ج...

وغادرت الغزلان!

صورة
إلا غزالة نحيفة بقيتْ.. في الركن الأبعد منه، بقيتْ. لازمَ زمنًا حُجراتِ قلبي وادٍ أخضر. آوى في سهله قطيعًا من الغزلان. كُنَّ يضحكن، وكُنَّ يرقصن، وكانت حوافرُهنَّ مُحنَّأةً، تدق كالطبول في رأسي. كُنَّ مؤنساتِ صمتي. ثم حدث أن اجتاحتني عاصفة، لم تخلِّف وراءها إلا بردًا ووحلًا وغصونًا مهشمة.  أزَّ خطو القطيع يُعمِل حوافره في بقايا الأغصان المذعورة، يفتتها، في طريقه مغادرًا.  اتجهتْ الغزلان إلى البحر، التفتتْ خلفها للحظة.. ثم رحلتْ، ولم تمشِ على الموج!  صار صدري مهجورًا، كمرعً يابس.. ارتدى عباءة من ظلام، وهجرَه الرقص. إلا غزالة نحيفة بقيتْ.. في الركن الأبعد منه، بقيتْ. تلعق جروحها وهي ترتجف، ومن وقت لآخر تنفخ في ناي مشروخ لتذكرني أنها لا تزال هنا، تنتظر عودة الرفاق. 

حارس سطح العالم (مراجعة)

صورة
  "حارس سطح العالم"  بثينة العيسى.   إن الغريب -والمبهر- في تلك الرواية، أنك لن تستطع أن تخوض غمارها، أو تستمتع بها، دون تأويل النص. وكأن الكاتبة أرادتكَ شريكًا في الجريمة منذ السطر الأول؛ تستغرق في الرمزية والاستعارات، تبحث عما وراء العبارات والجمل، وبدون أن تدري ستتورط حتى أذنيك في خلق المعنى، وبالتالي لستَ بريئًا مما تستنبط؛ فأنت تلقن النص دلالاتِكَ كما يلقنك دلالاتِه تمامًا. اللغة هي موسيقى الحكايا، وهنا كانت متناغمة، قاسية أحيانًا وأخرى ناعمة، متماهية مع النص حد الاختفاء، وهو الشيء الصعب. عاونني هذا في أن أتماهى بدوري مع القصة: فلقد رقصتُ وبكيتُ على أنغام الرواية؛ شعرتُ أني عارٍ أرقصُ مع زوربا، تخبط قدماي الأرض بشدة، ومع ذلك لا يُسمَعُ إلا صوت الموسيقى. ألس وبينوكيو، صديقا الطفولة، نُفخِتْ فيهما الحياةُ فبُعِثا بين دفتي الكتاب. و عينا الأخ الكبير حاصرتني من كل اتجاه، حتى أمسيت مقتنعًا أني دمية. واختنقت بدخان عيد التطهير مغصوصًا وغاضبًا على من يحرق الكتب والماضي معها. وأنا بين كل هذا وذاك مستمتعٌ ومستغرقٌ في التأويل، بتهور سرطانات المعارضة وحذر حارس المكتبة. لقد قاربت...

بلا عنوان

صورة
تثور في رأسي فورة من الكلمات التائهة: الاشتياق. الندم. الخيبة. الحب. الصداقة. الدفء. التصافي. الأنانية. التضحية. الخوف. وغيرهم الكثير. كم تُعجِز اللغة أحيانًا؟! تتمرد، تصرخ برفض صامت. ترد طرفها عن أفكارك، تعيدها خائبة إلى عقلك. أتخيل اللغة أحيانًا كطفل صغير، يقف منتصبًا، يعقد ذراعيه، يزم شفتيه ويهز رأسه أن لا!  دع قلبك المنتفخ ينفجر بالكلمات الشاردة، كل كلمة تبحث عن أخرى، تسبقها أو تتبعها لتخلق معها معنًا ما، أي معنى..  اللغة ليست الكلمات؛ اللغة هي الروح التي تُنفَخ في الكلمات فتخلق منها شيئا حيًا، كائنًا كاملًا، ذا وجود مستقل، حتى خارج مُتحدِثها أو كاتِبها. الكلمات بلا لغة كالموسيقى بلا تناغم. هكذا أجد كلماتي اليوم: عصيةً، نشاذًا، دون رابط يربطها.  تثور في رأسي فورة من الكلمات التائهة: الاشتياق. الندم. الخيبة. الحب. الصداقة. الدفء. التصافي. الأنانية. التضحية. الخوف. وغيرهم الكثير. تترك لغتي كل كلماتي فريسة لتشردها، بلا مأوى.. بلا مكان تسكن إليه في معنى واضح وأخير. تستمر في التخبط بين أذني، تبحث عن مخرج، عن حياة تحركها. لكن ماذا يمكن أن أفعل -أو تفعل هي- أمام هذا الطفل ال...

أليست كلها ثرثرات؟

صورة
  تقوم ثائرة جيوبي الأنفية على الدوام في هذا الوقت من العام، تبدّل الفصول. لقد اعتدتُ الأمر؛ فهناك عشرات المهيجات التي تثيرها طوال الوقت: الروائح النفاذة، الهواء البارد، الاستحمام بماء دافيء، السهر ليلتين متتاليتين، وغيرهم الكثير. حتى أنني اعتدتُ نزيف أنفي بين الحين والآخر. صرت أتعامل معه بمهارة، أداويه أحيانا بدون التحرك من مكاني، استخدم عدة مناديل حتى يتوقف تمامًا، هكذا ببساطة، استمر فيما أفعل بدون التفاتة اكتراث واحدة. شيء بخصوص التكرار يجعل الأمور أكثر احتمالًا. في البداية يتملكك الذعر، الاحتمالات كثيرة ولديها القدرة على إتلاف الهدوء، والتساؤلات تحفر طريقها إلى عقلك. لماذا حدث هذا؟ وكيف؟ وماذا يعني؟ وإلى متى سيستمر؟  من المحتمل أني أبالغ قليلًا، لكنّي سأسمحُ لنفسي بذلك فقد قررت التهاون معها اليوم. ربما الحساسية الموسمية ليست المثال الأفضل لما يدور بعقلي، ولكن ماذا يدور بعقلي يتطلب تمثيلًا؟ أظن ألا معنى غائر وراء ما قولته. أنا فقط أثرثر.. أثرثر لرغبتي الهروب من صوت ما يطاردني، لا أستطيع أن أضع يدي على ماهيته تحديدًا، لكن مازالت أصداء خطاه تتردد في أذني، وغالبًا سأستمرُ في ه...

سحر كلمة ولكن!!

صورة
  الخوفُ لا ينتهي، ولكن...  للاستدراك قوة سحرية. تقلبُ المعاني، تخلقُ الجمل من جديد، تجذبها من بخل الاختزال إلى جود الحقيقة الجلية. لا ينفي الاستدراك ما سبقه، وهنا يكمن السحر؛ فالحقيقة الناقصة تُشعِرك بالعجز حين لا تدرك نقصانها. يعتريك الإجهاد ويداك تحاولان أن تقبضا على ظل. يصيبك الإحباط وأنت تطارد الأشباح، تظن أن العيب فيك. فالجهل أفضل من حقيقة ناقصة.  الاستدراك هو محاولة اللغة لإخبارك أن اصبر، هنالك المزيد. تريث حتى ترى الوجه الآخر من العملة، قبل أن تطارد سرابها أو تهرب منه. الاستدراك هو الحد الفاصل بين الهلوسة والحضور، الحقائق وأشباهها. مقتنعٌ تمامًا أن الجمل مبتورة الاستدراك تسوِّر تخوم الجنون.. إياك أن تقف بعد كلمة ولكن!  كانت الأيام القليلة الماضية دوامات من المشاعر المتضاربة. اختبرت قلقًا مُفزِعًا، وهدوءً كنت قد نسيت أنه ممكن. اكتنفني حزنًا خالجه البكاء -وأنا عادة لا تُكرِمني به عيناي- وضحكت من قلبي للمرة الأولى منذ ما يقارب الشهرين. تكملةُ فترة عسيرة ممتدة منذ شهور. موقن أنه لولا أصدقائي ومن حولي ممن ساندوني لكنت مازلت أقف في مربع الصفر مرتجفًا كاليوم الأول....