حرائق صغيرة في كل مكان (مراجعة)
فكما يقول عالم الإجتماع البولندي زيجمونت بومان:
"حول الأمكنة تتشكل التجربة البشرية وتُكتشف، وتُدار مشاركة الحياة، ويتشكل معناها، ويُستوعب، ويُتفق عليه؛ وحول الأمكنة، ومن الأمكنة، تتشكل الدوافع والرغبات البشرية، وتتبلور، وتعيش على أمل التحقق، وتُخاطر بالتعرض للإحباط والإخفاق."
الأزمنة السائلة؛ صــــ 97،98
وتتكشف الأحداث هنا بما يجعل لـ"مدينة شايكر" ذلك الطابع الميثولوجي في خلفية الأحداث. فالمدينة هنا كائن أسطوري بتاريخ ذي معنى وهدف، لا يقل أهمية عن معماريتها أو الخدمات المتوفرة بها. وتمثل المدينة بتاريخها وقواعدها هويةً لساكنيها وأسلوبًا حياتيًا كاملًا. وما يعزز محورية المكان في نسيج القصة هو المقال الذي استهلت به "سيلست إنج" الكتاب؛ فالمقالُ المنشور في جريدة الـ"كوزموبوليتان" يحمل طابعًا تبشيريا إلى حد بعيد، ووعد بحياة يوتيوبية في مدينة "شايكر هايتس"، التي، كما يوضح المقال، لا يختلف قاطنوها كثيرًا عن المواطن الأمريكي المثالي، ولكنهم، مثلما قالت سيدة في نادي المدينة الريفي، أناسٌ ودودون يقضون وقتًا رائعًا. فالمدينة -في النّص- تمثيلٌ مكثفٌ للحلم الأمريكي، يحاول أن ينحّي المصادفات التي قد تعكر صفوه بقواعد وقوانين صارمة، ابتداء من آليات الإنشاء المعمارية والمجتمعية وحتى سُنن تعايش السكان، بل وتحديد المسموح لهم بالولوج إلى ذلك المحيط الآمن.
ولكن الرواية أيضًا هي رواية شخوص وأحداث بامتياز. فأنت ترى شخصية السيدة ريتشاردسون وما يعتمل بداخلها من رغبة متأججة بالحصول على تقدير معنوي بشكل أو آخر، إنها لا تختزن جهدًا في مساعدة الأقل حظًا في الحياة. وهي كذلك تنبذ بصوت عالٍ العنصرية ضد العرق الأسود، وتحاذر في كل مفردة تستخدمها، كتفضيلِها لمصطلح "أفارقة أمريكيين" على "السود" لأنه أكثر صوابيةً. تعمل وتربي أربعة أطفال كامرأة ناجحة في القرن الجديد، القادرة على تحصيل كل شيء. لكنها لا تفعل كل هذا لقيمته، ولا تستطيع أن تجد فيه معنًا لذاته؛ فهي مازالت تبحث عن تقدير خارجي ممن حولها طوال الوقت.
كذلك مِيا وما في صدرها من اشتباك، بين هويتها كفنانة حرة وكذلك أم مسؤولة. والتزاماتها في كلتا الحالتين، وكيف تتقاطع أو تتنافر تلك الالتزامات.
ويمتد الصراع النفسي ليطال معظم شخصيات الرواية الرئيسية بطريقة أو بأخرى. وكل ذلك في إطار حدث رئيسي وهو تبني السيدة ماكولا لابنة بيبي تشو، وما تبعه ذلك من تجاذبات وصراعات في المدينة كلها انبثقت من زخمها القصةُ حية لمتلقيها.
إنطلاقًا مما سبق ذكره يمكن تحليل الرواية من خلال تفكيك الصراع القائم أساسًا حول المكان، وما تمثله السيدة ريتشاردسون الساكنة من مؤمن صادق بالمدينة، وفيٌّ لقواعدها والفكرة التي أُسستْ عليها، واستعدادها التام لبذل كل نفيس لحماية ما تؤمن به. وما تمثله مِيا الدخيلة من تمرد واختلاف، وعدم الامتثال لأبسط القواعد الحياتية التي تجعلك فردا منتميًا لمجتمع "شايكر هايتس". وحتى أن الصراع بين السيدة ماكولا و بيبي تشو هو في جوهره امتداد لذلك الصدام بين الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية.
الرواية فنيا لا غبار عليها؛ الأحداث مترابطة ومنطقية، وقمةٌ في الإثارة. الشخصيات حقيقية تستطيع أن تراها وتلمسها على الصفحات. تتعاطف معها تارةً، وأخرى لا تملك إلا أن تحنق عليها. تسارع الحبكة مثالي كذلك، وتشعر أن الحكاية، مثل إحدى أعمال مِيا الفنية، مبنية بإحكام وانسيابية، تترقب منظورك لها، وفي أي إطار ستضعها كي تنطق بمعانيها ودواخلها.
تعليقات
إرسال تعليق