سحر كلمة ولكن!!

 الخوفُ لا ينتهي، ولكن... 


للاستدراك قوة سحرية. تقلبُ المعاني، تخلقُ الجمل من جديد، تجذبها من بخل الاختزال إلى جود الحقيقة الجلية. لا ينفي الاستدراك ما سبقه، وهنا يكمن السحر؛ فالحقيقة الناقصة تُشعِرك بالعجز حين لا تدرك نقصانها. يعتريك الإجهاد ويداك تحاولان أن تقبضا على ظل. يصيبك الإحباط وأنت تطارد الأشباح، تظن أن العيب فيك. فالجهل أفضل من حقيقة ناقصة. 

الاستدراك هو محاولة اللغة لإخبارك أن اصبر، هنالك المزيد. تريث حتى ترى الوجه الآخر من العملة، قبل أن تطارد سرابها أو تهرب منه. الاستدراك هو الحد الفاصل بين الهلوسة والحضور، الحقائق وأشباهها. مقتنعٌ تمامًا أن الجمل مبتورة الاستدراك تسوِّر تخوم الجنون..

إياك أن تقف بعد كلمة ولكن! 


كانت الأيام القليلة الماضية دوامات من المشاعر المتضاربة. اختبرت قلقًا مُفزِعًا، وهدوءً كنت قد نسيت أنه ممكن. اكتنفني حزنًا خالجه البكاء -وأنا عادة لا تُكرِمني به عيناي- وضحكت من قلبي للمرة الأولى منذ ما يقارب الشهرين. تكملةُ فترة عسيرة ممتدة منذ شهور. موقن أنه لولا أصدقائي ومن حولي ممن ساندوني لكنت مازلت أقف في مربع الصفر مرتجفًا كاليوم الأول. 

عندما جاءني صديقي للمرة الأولى في بداية التعثر كنت كومةَ حطام؛ كانت أبسط الأمور تُفتّتُني و تذرني هشيمًا. التنفس شقَّ عليّ، الاستيقاظ من النوم، النظر في وجه أفراد أسرتي، الطعام، اليوم بكل تفاصيله. كان كل شيء ضبابيًا ومخيفًا. كرهتُ الحياة وشعرت بها تلفظني من أحشائها. تركتني فريسة سهلة لعقلي بلا أي دفاع. ابتلعني الهلع وظننتتُ أنها بداية لنهاية مأساوية. ولكن.. لم تكن تلك هي الحقيقة الكاملة. هاجمتني أفكاري من هذه الثغرة -ثغرة الحقيقة المنقوصة- وصنعتْ عالمًا وهميًا توحشتْ بداخله. 

الحقيقة الكاملة، وبالرغم من استحالة رؤيتي لها في البداية وحدي، هي أن الحياة مليئة بالمتاعب والمتع. كلمتان يشتركان في كثير من الحروف ولكن سرعان ما تطغى إحداهما على الأخرى فتطمسها، وتظن أن الحياة ليست بها إلا من طغتْ. وأنا قد حدّتني المتاعب من كل صوب، أينما وجهت عيني كان ثمة معاناة تنتظرني، تنظر إلى بثقة من خُلِق خالدًا، فصدّقتُ أنها كذلك، ولم يساورني الشك فيما أرى، لكن الشك على العكس هاجمني أنا، فشكّكت في قيمتي وقدرتي على المواجهة، حتى طُرِحتُ صريعاً بلا قتال.

  

مرّتْ أيامٌ كثيرة منذ ذلك الانهيار الكامل، وبمساعدة أصدقائي -الذين أدينُ لهم بالكثير- بدأ سحر الاستدراك يظهر؛ فأنا منهار ولكن هذا ليس بالوضع الدائم. حياتي مليئة بالمتاعب والمعاناة في هذه اللحظة ولكن لها وجهً آخر لا مناص من أن يعود يومًا ليسود، أو على الأقل ليوازن المعادلة. والعديد والعديد من الاستدراكات التي ساعدتني أن أقف منتبها مرة أخرى، وإن كان الوقوف هو فقط أول طريق المقاومة الطويل.

يغدقني الاستياء حين تواجهني حقيقة أنه ليس باستطاعتي حاليًا أن أفعل شيئًا يتخطى الوقوف، وأشعر أني تسببت بالكثير من الأذي لمن أحبهم بسبب ذلك، وأنني لا أستطيع أن ألاقي توقعات أيا منهم مهما كانت بسيطة. لكن عندما أتذكر أنني قد جاهدت طويلا حتى أصل الآن إلى النقطة التي تقف عليها قدماي بثبات حييّ يخالجه الاهتزاز، أدركُ أن مجرّد الانتصاب ثم نفض التراب عن ملابسك يعتبر بطولة أحيانًا. 

هذه الأيام الأخيرة واجهت الكثير من مخاوفي، انتصرت تارة وتقهقرت في أخرى، حرب مليئة بالكر والفر. لكن أهم ما يميز هذه الفترة أنها تحولت من استسلام تام إلى مناوشات ومعارك مستمرة. أحاول أن أعطي لنفسي فرصة الاحتفاء بتلك الانتصارات الصغيرة، وإن عاندني حزني في كثير المواقف.
فمثلا: ذهبت إلى مكتبتي المفضلة في المدينة. تركت يدي تمر على رفوف الكتب، كأني أستمد من أبطال الحكايا شجاعتهم، وألتمس في معاناتهم العزاء، ومن مقاومتهم الإلهام.

 

لامست أطرافي رواية بثينة الحبيبة الجديدة

عبثتْ أصابعي بالكتب كطفل صغير يريد أن يعرف ما تخبئه هداياه المغلفة بمجرد التحسس. ملأتُ صدري برائحة الخواطر والأشعار والأفكار التي تحيط بي. كان في وجودي بالمكتبة هذا شعور بالطبيعية اشتقتُ إليه.

اشتريت كتابين:


لا يوجد ألطف من اقتناء كتاب جديد!!

لم تطاوعني نفسي أن أنزع عنهما غلافهما البلاستيكي، تنبهت إلى أن حالتي ليست مثالية لاستلاب عذريتهما ثم تركهما على رفوف المكتبة دون قراءة؛ لأني لست مستعدًا لخوضهم بعد. يستحقان طقوسًا كتلك التي حظيت بها سائر كتب مكتبتي.


إذا في النهاية هنالك تقدم. خطواتٌ بطيئةٌ مترنحة ولكنها خطوات. ربما استعاد إيماني بنفسي شيئًا من مكانه في قلبي، ربما قدرتي على المقاومة قد تضاعفت الآن وذهني آنسه قدرٌ من الصفاء، ربما يحدث بعض التعثرات والانتكاسات في الطريق. الاحتمالات كثيرة، تكاد تكون لا نهائية، لكني الآن -على الأقل- أرى قدرًا أكبر من الحقيقة.
فليس لصفحات الخوف في كتابي رقم معين تنتهي عنده.. ولكن تبقى الحياة ممكنة!!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وغادرت الغزلان!

أليست كلها ثرثرات؟

حارس سطح العالم (مراجعة)